من “الوطن الموعود” إلى “الوهم المنهار”.. هجرة معاكسة تقوّض سردية الأمان الصهيونية

من “الوطن الموعود” إلى “الوهم المنهار”.. هجرة معاكسة تقوّض سردية الأمان الصهيونية
احتجاجات في إسرائيل

بين الطرقات المزدحمة المؤدية إلى مطار بن غوريون، وبين صفارات الإنذار التي تشق ليل تل أبيب، تتجلى ملامح هجرة يهودية معاكسة تهزّ عمق البنية النفسية والرمزية لدولة إسرائيل

ما يحدث لا يشبه موجة نزوح طارئة ولا حتى حركة سفر عابرة، بل يعكس تآكلًا متسارعًا في جوهر الفكرة الصهيونية نفسها؛ فالوطن الذي طالما رُوّج له على أنه "ملاذ آمن لليهود" بات في نظر كثيرين ساحة خطر دائم، حيث لم تعد القبة الحديدية قادرة على حماية ما وصفته الدعاية السياسية طويلاً بأنه الحلم القومي المتجسّد.

في الرابع عشر من يونيو 2025، تحوّل هذا الحلم إلى كابوس ملموس. يومها، انطلقت عشرات الطائرات المسيّرة الإيرانية باتجاه العمق الإسرائيلي، مترافقة مع صواريخ بعيدة المدى أصابت أهدافًا قرب تل أبيب وعسقلان وبيتح تيكفا. الهجوم لم يكن فقط تحديًا عسكريًا غير مسبوق، بل ضرب في صميم الثقة الشعبية بالمنظومة الدفاعية، وأعلنت وزارة الصحة الإسرائيلية عن سقوط 13 قتيلًا وإصابة عشرات آخرين، بينهم أطفال، فيما عمّت حالة من الذعر البلاد. 

خلال أقل من 48 ساعة، ألغيت أكثر من 290 رحلة من مطار بن غوريون، وبحسب وكالة الأنباء الفرنسية، حاول قرابة 40 ألف شخص مغادرة إسرائيل في الأيام الثلاثة التالية للهجوم، منهم أكثر من 18 ألفًا من حاملي الجنسيات المزدوجة، أي أولئك الذين رأوا في جوازهم الأجنبي خشبة خلاص.

أعادت هذه الحوادث طرح سؤال جوهري.. هل إسرائيل، كما هي اليوم، ما زالت مشروعًا جذابًا لليهود في العالم؟ المعطيات تقول غير ذلك، ففي تقرير صدر عن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية في يناير 2025، تبيّن أن صافي الهجرة اليهودية إلى إسرائيل تراجع بنسبة 27% خلال عام 2024 مقارنة بعام 2023. الأخطر أن عدد المغادرين من اليهود الإسرائيليين ارتفع بنسبة 41%، حيث غادر 82,700 شخص خلال العام، عاد منهم فقط 23,800، ما يعني أن أكثر من 58 ألفًا اختاروا الرحيل دون نية للعودة، وفي السياق الديموغرافي الإسرائيلي، يُعد هذا الرقم بمنزلة ناقوس خطر لا يُستهان به، خصوصًا في ظل تراجع معدلات النمو السكاني لليهود إلى 1.1% فقط، وهو الأدنى منذ عام 1989.

لكن الوجه الأخطر لهذا النزوح يتمثل في الفئة التي تغادر: غالبية المغادرين تراوح أعمارهم بين 20 و45 عامًا، وهي الشريحة التي تشكّل عماد الجيش، والاقتصاد، ومشاريع الاستيطان، والبحث العلمي، وقطاع التكنولوجيا. بحسب تقرير "هيئة الابتكار الإسرائيلية"، فإن 11.2% من العاملين في قطاع التكنولوجيا الدقيقة غادروا البلاد منذ مطلع 2024، وهي النسبة العليا منذ عقدين، وهذه الفجوة لم تستطع الدولة سدّها، ما أدى إلى تراجع الإنتاجية في القطاع التكنولوجي بنسبة 7.6%. أما القطاع الطبي، فشهد مغادرة 2,800 طبيب خلال عام واحد، وفق ما أوردته نقابة الأطباء، أكثر من نصفهم من المتخصصين في جراحة القلب والأعصاب، في ظل عجز السياسات الحكومية عن تقديم حوافز فعالة تُبقي هذه الكفاءات داخل البلاد.

انكسار الإحساس الجمعي بالأمان

على الأرض، لم تعد إسرائيل قادرة على تحويل التهديدات إلى لحظة توحيد وطني كما اعتادت في السابق. بل على العكس، انقلبت الصورة فوسائل الإعلام بدت مرتبكة، وبيانات الحكومة متضاربة، والذعر في الشارع الإسرائيلي أصبح مشهدًا مألوفًا.

 الخبيرة النفسية الإسرائيلية دوريت نيمان صرّحت لقناة “كان” العبرية أن "الهروب من الصواريخ لم يعد إلى الملاجئ، بل إلى خارج البلاد"، مشيرة إلى أن هذا التغير السلوكي هو مؤشر نفسي أخطر من الصواريخ نفسها، فحين يفقد الناس ثقتهم بأن بلدهم هو المكان الأكثر أمانًا، تنهار ليس فقط الحواجز النفسية بل أيضًا ركائز الانتماء.

ومع انكسار الإحساس الجمعي بالأمان، تنفتح بوابات الهشاشة النفسية والسياسية على مصراعيها. إسرائيل لم تُبن فقط بالسلاح، بل على سردية أخلاقية وتاريخية ادّعت التفوق، إلا أن تلك السردية بدأت تتهاوى، وبحسب استطلاع أجرته صحيفة "هآرتس" في مايو الماضي، صرّح 62% من يهود الولايات المتحدة بأنهم لم يعودوا يشعرون بأن إسرائيل تمثلهم، فيما أبدى 44% خشيتهم أن يصبح دعمهم لها عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا في مجتمعاتهم.

وإذا كانت الحرب النفسية مرآة لحقيقة الصراع، فإن هذه المرايا متصدعة في تل أبيب اليوم. فالملاجئ لم تعد كافية لاحتواء الفزع، والقبة الحديدية لم تعد تمنح الطمأنينة. بحسب مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، 61% من الإسرائيليين باتوا يشككون في قدرة حكومتهم على إدارة الأزمات الأمنية والاجتماعية، و43% يرون أن المشروع الصهيوني في صيغته الحالية "فقد مبرراته الأخلاقية". هذا التشكيك لا يضرب في السياسة فحسب، بل يهز الرابط الرمزي بين المواطن والدولة.

في موازاة ذلك، يتقلص حضور إسرائيل كونها وجهة استثمارية جاذبة، فقد أشار تقرير بنك إسرائيل، الصادر في يونيو 2025، إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 19.3% خلال النصف الأول من العام، وهو التراجع الأكبر منذ عام 2008، مدفوعًا بعدم الاستقرار الأمني والسياسي، وهذا التراجع الاقتصادي يتقاطع مع الانهيار في قطاع التكنولوجيا، الذي يُعد قاطرة الاقتصاد الإسرائيلي، ومعه قطاع الصحة والتعليم. لم يعد الحديث عن تباطؤ اقتصادي فحسب، بل عن ركود استراتيجي شامل، يتعمّق مع كل موجة نزوح، ويتكرس مع كل هزة نفسية تضرب المجتمع.

ومع كل ذلك، تُسجّل مفارقة صارخة، فبينما يفر الناس من الحرب بحثًا عن الأمان، يتصاعد خطاب اليمين المتطرف في الداخل، في مفارقة تشي بانفصال الدولة عن ذاتها. فبينما كان المشروع الصهيوني يدّعي تمثيل "كل اليهود"، بات اليوم يدفعهم إلى المغادرة، في لحظة تصادم بين الوعد التأسيسي والواقع المعيش، ووفق بيانات وزارة الداخلية، تقدمت 7,900 عائلة بطلبات للتخلي عن الجنسية الإسرائيلية في الأشهر الخمسة الأولى من 2025 فقط، وهو رقم يفوق كامل الطلبات المُسجلة في 2023. أما على مستوى الشباب، فتشير دراسة لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي إلى أن 36% من الفئة العمرية 18–35 عامًا يفكرون جديًا في مغادرة البلاد، وهي نسبة ارتفعت بـ11% خلال عام واحد فقط.

الأرقام تكشف انهيار أعمدة المشروع الصهيوني الثلاث: الحشد، العودة، والتمكين. ففي حين انخفضت نسبة النمو السكاني لليهود، وسجّل عدد المهاجرين الجدد تراجعًا بـ27%، تضاعفت حالات المغادرة الدائمة، وارتفعت معدلات النزوح من المستوطنات في الضفة الغربية أربع مرات خلال الربع الأول من 2025، وفق تقارير مجموعة “أوكسفورد إيكونوميكس”، بهذا المعنى، تتحوّل الهجرة من فعل فردي إلى إعلان جماعي عن نهاية الثقة، ومن حركة جغرافية إلى تمرد على الفكرة نفسها.

وحين يصبح كل شاب مشروع مهاجر، وكل أسرة نازحة محتملة، وكل تهديد اختبارًا للفكرة التي تأسست عليها الدولة، يكون السؤال "هل يستحق هذا الوطن أن نعيش فيه؟" أكثر من مجرد تساؤل فلسفي. إنه السؤال الذي لا يُجاب عنه بالشعارات، بل بحقيبة سفر، ونظرة أخيرة إلى بلد بات يخيّب الأمل أكثر مما يحققه، هذا هو جوهر الأزمة، حين يصبح الرحيل جوابًا أكثر صدقًا من الخطاب الرسمي، لا تحتاج الحروب بعد ذلك إلى إعلان، لأن الفكرة حين تنهار من الداخل، تسقط بلا ضجيج.

مؤشرات على انهيار داخلي

يرى المحلل السياسي الدولي عامر تمام أن ما يُتداول بشأن "هجرة عكسية" للمستوطنين لا يزال مبكرًا اعتباره توجهًا دائمًا، لكنه يؤكد في حديث لـ"جسور بوست" أن ما يحدث يمثل حالة هروب جماعي مدفوعة بالخوف من تفاقم التهديدات الأمنية، خاصة مع التصعيد المتسارع في المواجهة مع إيران.

وأضاف تمام أن ضعف الجبهة الداخلية كان دومًا نقطة ضعف مزمنة في بنية الدولة الإسرائيلية، وحين يشعر الإسرائيليون بالخطر المباشر على حياتهم، فإن ذلك يتجاوز الأثر النفسي إلى التأثير الفعلي في دوائر صنع القرار، وأشار إلى أن استمرار حالة النزوح قد يدفع الحكومة نحو خيارات عسكرية متهورة وربما مدمرة، تشمل استخدام أسلحة غير تقليدية، في محاولة لتعويض انهيار الشعور بالأمان.

وشدد تمام على أن الرهان الإسرائيلي على الدعم الخارجي، ولا سيما من الولايات المتحدة، قد لا يكون كافيًا إذا تصاعدت حدة الانهيار الداخلي، وأوضح أن الحرب النفسية، رغم فعاليتها في البداية، لا يمكنها احتواء الانهيارات المعنوية طويلة الأمد، مشيرًا إلى أن المزاج الشعبي قد ينقلب ضد الدولة إذا تواصلت الهجمات على العمق الإسرائيلي.

إسرائيل في مأزق ديموغرافي حقيقي

من جانبه، حذر المحلل السياسي الأوكراني من أصل فلسطيني محمد العروقي من أن الهجرة العكسية تشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، التي قامت منذ نشأتها على أساس مشروع ديموغرافي لجذب المهاجرين من أنحاء العالم، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

وفي تصريح لـ"جسور بوست"، أكد العروقي أن التعتيم الإعلامي حول هذه الظاهرة مقصود ومدروس، بهدف تفادي صدمة نفسية جماعية داخل المجتمع الإسرائيلي، خصوصًا مع ضعف الانتماء العقائدي لدى شريحة من المهاجرين الجدد، الذين جاؤوا بدوافع اقتصادية أو سياسية، وليس بدافع الإيمان بـ"أرض الميعاد".

وأشار إلى أن إسرائيل استخدمت الهجرة في الماضي وسيلةً لبناء الدولة، ولكن إذا بدأت هذه العملية بالانعكاس، فإن أسس المشروع الصهيوني نفسها تصبح محل تساؤل، خاصة أن الدولة لا تستطيع الصمود ديموغرافيًا دون تدفق مستمر للمستوطنين.

وأضاف أن المهاجرين الذين يشعرون اليوم بعدم الأمان يملكون جنسيات مزدوجة وأبوابًا مفتوحة للهروب، في حين تحاول إسرائيل إنكار ذلك من خلال السيطرة على الأرقام والرواية الإعلامية. لكنه ختم محذرًا: "يمكن إخفاء الأرقام، لكن لا يمكن إخفاء الحقائب التي تُجرّ إلى المطارات".

"هاجس الدولة الهشة"

يجمع تمام والعروقي على أن التحدي الوجودي الحقيقي الذي يواجه إسرائيل اليوم لم يعد خارجيًا فقط، بل بات ينبع من الداخل، حيث تتلاشى الثقة بين الدولة ومواطنيها في قدرتها على الحماية، ويهدد الانهيار المعنوي بتفكيك نسيج المجتمع الاستيطاني الذي لا يملك جذورًا تاريخية راسخة.

ومع اتساع نطاق التصعيد العسكري، تبقى الجبهة الداخلية الإسرائيلية هي الحلقة الأضعف، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات خطِرة تبدأ بالنزوح الداخلي، وقد لا تنتهي قبل أن تتسع رقعة "الهجرة العكسية" إلى درجة تزلزل مشروع الدولة ذاته.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية